زوار مدونتي الكرام..
* تمّ إغلاق المدونة، وإيقاف إمكانية التعليق على التدوينات..

** كذلك أحببت التنويه إلى إمكانية التحكم في المقطع الصوتي وإيقافه إن أحببتم عن طريق الآيقونة في آخر الصفحة..
وفقيرة أبقى لدعائكم

الجمعة، 30 مارس 2012

ســرب الحَــمَام..


السلام عليكم ورحمة الله..
هذه التدوينة تراودني منذ زمن طويل، قد تستغربون لو علمتم أنه أمتد لأكثر من سنتين بل من بدايات نشري للمدونة، وقد تتسآءلون :وما المانع إذن من تسطيرها طيلة هذه الفترة ؟
بصراحة أقول..أن بعض المشاهدات تسكب في النفس أمورا تدرك ولا توصف..ولا أعلم حقا أن كنت سأوفق لعرضها الآن بشكل جيد، يحملكم لأجواء الشعور ذاته، أم لا؟
هو حنين القلم و " حنّته " أن ينثر ما يثقل قلبه حبرا على هذه الأوراق، وليتولى الله أمره بعدها ..
اسألكم العذر لقصور البيان..

_________________________________________________
 

قبل أكثر من سنتين كنت في كل صباح معتادة على إصطحاب ابن أخي لمدرسته الإبتدائية، والتي تتربع على قمة المدارس القوية وذات الصيت في مدينتي ، لذا تقع في أحد الأحياء الراقية جدا، محاطة بسياج الهدوء، والفلل الفاخرة..

كنت في كل صباح اتأمل وجوه الأطفال وهم يتوافدون إلى المدرسة نازلين من سياراتهم الخاصة ، فأرى المرسيدس، واللكزس ، وغيرها، وطفلا صغيرا بمجرد أن تقف السيارة يركض السائق ليفتح له الباب، ليمضي هو إلى الداخل بدون إلتفات لسائقه الذي يركض ورائه حاملا حقيبته المدرسية؟!

بعض الأحيان كانت براءة الأطفال لا بد أن يعلو صوتها رغم أغلال الأبهة، فتجد أحدهم يفرح إذ رأى صديقا له، ويتراكضان مبتسمين نحو بعضهما، أو يلوحان من بعيد، ثم يكملان المسير..

كنت أفرح كثيرا عندما أرى أحدهم يبتسم لأبن أخي ويلوح له، لا أعلم لماذا؟ ربما هو الأنس بالإنسانية المحضة الهاربة من قيود البرستيج ؟؟!!

وبعد أن أودِّع ابن أخي ، وتشيعه عيناي حتى دخول المدرسة، كنت أستأنف المسير ميمّمةً شطر المدرسة التي كنت أعمل بها..

كان حال مدرستي معاكسا تماما لما عليه مدرسة ابن أخي، مدرسة ذات مبنى حكومي عادي على شارع ضيق مملوء بالحفر في أحد الأحياء الفقيرة المهملة ، وخلفها كذلك مدرسة أولاد إبتدائية لا تختلف عنها بحال، وتحيط بها بيوت متواضعة وأخرى متهالكة، ولا يجف شارعها من طفح مياه الصرف الصحي ،ولا تردم حفره، وتتراكض إليها أقدام ضعيفة مغبرة الأحذية؛ ومنها ما بلي من كثرة الإستخدام، وتقف على بابها سيارات متواضعة، لا تخلو من خدش هنا، أو آثار صدمة هناك، ولا أحد يجري عند توقف السيارة أمام الباب ليفتح للطفلة بابا، ولا لينزل إليها حقيبة إلا إذا كانت السيارة "ميني باص" مكتضٌ بمن فيه فلجأ صاحبه إلى رص تلك الحقائب فوق سقفة، أو ربما سيارة صغيرة تتسع لخمسة ركاب، لكن ينحشر فيها عشرة، ويضطر الأب إلى وضع الحقائب في صندوقها..

عند مدرسة ابن أخي..ترى واجهات المحلات الراقية مثل (  DunkinDonuts  ) وغيرها مما محاه النسيان من ذاكرتي الآن، وتقابل وجوها ترتدي أفخر الماركات، وتلمع إطارات نظاراتها الشمسية، وساعاتها اليدوية في ضوء الشمس فتلفتك إلى وجودها رغما عنك..

وعند مدرستي..ترى بقالة صغيرة يزدحم على بابها الأطفال،وبوفية متواضعة لا تزيد مساحتها عن المتر في متر ونصف تتسع بالكاد لوجود الصاج، والموقد الذي يصنع عليه الشاي، وتحضر عليه أنواع الساندويتشات والفطير الشعبي، وعند الزاوية تقف عربة قديمة تبيع "البليلة واليغمش" كما نسميها هنا، وفي نهاية الدوام لا تتبين ملامحها من تجمع الأيدي الصغيرة المرتفعة بالريال حولها..

عند مدرسة ابن أخي..تستغرب إن رأيت أبا ممسكا بيد ولده يصحبه لداخل المدرسة لأن ذلك نادر جدا، ولا يكون ذلك الطفل غالبا ممن ألتحق بتلك المدرسة بالتسجيل فيها ودفع الرسوم، بل ممن حظي ببعثة داخلية لتفوقه كما هو الحال مع ابن أخي، إذ غالبا ما كان يقول لي عندما نرى أحدا من الأطفال بصحبة أبيه : هذا زميلي فلان، من الفائزين بالمسابقة حقت الموهوبين، يعني مو من المسجلين في دار الفكر ؟؟!!
وعند مدرستي..كم مرة يلفت نظري منظر سيارة متهالكة تنوء بثقل ركابها لكثرة عددهم، وبابها الأيسر من جهة الراكب الخلفي مربوط بحبل ليثبته، وعندما تقف بحذاء الباب ينزل الأب الذي لا تخطئ العين مقدار ما يحمل على كتفيه من ثقل هموم المعاش؛ ليفتح الباب الآخر من الخارج، فينسل الأطفال خارجا واحد تلو واحدة يتضاحكون، ثم يتوجهون إلى صندوق السيارة ليأخذوا حقائبهم من يد ذلك الوالد  الذي لا ينسى أن يطبع على بعض الوجنات قبلة سريعة لترى أجمل إبتسامات رسمت على صفحة الصباح، من قلوب صغيرة ممتلئة فرحا وزهوا تتلفت حولها بسعادة علها تلمح إحدى الصديقات وقد رأت تلك القبلة الأبوية تنطبع على وجنتها بحنان..
وبين المدرستين..كنت أمر على شارع فيه مساحة مرصوفة يجتمع فيها سرب حمام كل صباح فيأتيهم رجل نحيل عجوز يقارب السبعين من العمر،يمشي ببطئ متوكأ على عصاه التي إتخذها من أحد أغصان الشجر، ويحمل في يده كيس الحبوب، ينثرها لتلك الحمامات التي ما أن تراه حتى تطير نحوه في أُلفةٍ جميلة، وتحيط برجليه تلتقط الحب المتساقط منه، ومنها ما يقف على كتفه كأنما يقدم له صنوف الإمتنان!
وبين المدرستين..وسرب الحمام..كم توقفت بخجل أرقب دروس القناعة وشكر النعم ؟!

آه  ياليتني كنت  على أعتاب الرضا والشكر حمامة..

دعائكم..فكم أفتقر إليه

______________________________

إهداء خاص مغلف بباقات الشكر والإمتنان إلى الأخ الموقر الكريم الدكتور صادق العمران..
والأخت العزيزة  أم مهدي..
مع خالص الدعاء

هناك 12 تعليقًا:

  1. معاني غزيرة في كلمات بسيطة
    كلما أعدت قراءتها
    أقف متأملة في معانيها لأجد صورة جديدة تتراء أمامي
    ترسم معنى سامٍ ينضح من إنسانية الكاتبة

    ما أجمل الحياة التي تبنى على فهم هذه المواقف و كتابتها على شغاف القلب

    دمتي بإبداع أيتها الكريمة

    بدرية الموسى

    ردحذف
    الردود
    1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
      إذن وطئتِ بساط عمري بأخمص الضياء :)
      شكرا لأنك علقتِ في سواد ليلها بدرك المكتمل..
      دمت والخير ..ودامت أوراقي مزهوة بمرورك..
      دعائك الطاهر أيتها الكريمة..

      حذف
  2. السلام عليكم ورحمة الله
    جميل جداً وصفك ،جعلتيني أعيش تلك المواقف بطبيعتها وتركتي للقارىء أن يحلل ويقارن ثم يستنتج حكم وعبر بمفهومه التي قد يختلف عن مفهوم قارىء آخر
    فتدوينتكِ هذه رائعة.

    الرمح

    ردحذف
    الردود
    1. وعليك السلام من ربك السلام..ورحمة وبركات وإكرام..
      أبا فاطمة ..يشهد الله أدخلت في قلبي سرورا عظيما بمرورك أيها المؤمن..ولا أعلم ما أشكر..
      أتشريفك هذه الوريقات بالنظر؟
      أم تحفتك إياي بالتعليق عليها؟
      أيها الكريم..تمنيت لو نثرت شيئا من عبق فكرك وفصلت شيئا من عميق قرآءتك..علّ هذه السطور تكتسب من فاضل حكمتك معنى..
      لك الشكر كله يا أبن الطيبين على مرورك الألق..
      ودعائك فحتما أفتقر إليه

      حذف
  3. سلامـ الله عزيزتي ..

    جميلة تلك الصورة الجمالية المفصلة ..
    تعجبني أكثر كونها ترسمـ لنا صورا خيـالية نحن نرسمـها بأنفسنـا ..


    شكرا لكِ :)..



    .. " ملكْ " ..

    ردحذف
    الردود
    1. ملاك أوراقي ورحيق عصارتها..العزيزة ملك..عليك السلام من المنان به ورحمة وإكرام..
      أصدقك القول..لقد خشيت من تشتت الفكرة بإغارق الوصف، لكن القلم لم يشاورني عندما إنساب ليغترف من كل موقف إشارة!
      كانت هي الحياة بكل تفاصيلها عزيزتي ..لذا لكل منا لوحته، وبإجتماع تلكم اللوحات قد تتوضح الصورة بشكل أكمل..
      شكرا ملكْ لأنك تعلمين أن مرورك هنا يرسم ملامح أوراقي..فتكرمينها دوما بأجمل الملامح..
      خالص الدعاء..واسألك الدعاء

      حذف
  4. أيمن الظفيري31 مارس 2012 في 10:56 م

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    صور من البذخ المفرط و الفقر الشديد!
    المجتمع أعرج، قلة تعبث بلقمة أمم و ليت هذه القلة ممن نجد لهم صيتا في العلم و الأدب!
    صراع دائم و محتدم الظلم فيه منتصر في كثير من الأحايين، و قليل من الناس الشكور الذي يجد نفسه بخير و نعمة وافرة، مع ما قد ينظر إليه غيره على إنه فقير أو متواضع الحال، ولكنه يجد أن بإمكانه تقديم يد المعونة لمن هم أقل منه شأنا ... و يجد بأن الله آتاه خيرا كثيرا.

    ردحذف
    الردود
    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أخ الإيمان..
      أتعلم يا أخي يستوقفني كثيرا أنه غالبا من أعطي المال سلب وحرص على الأبهة لابد ان يسلب الإحساس الدافيء وعيش جمال التفاصيل، وإرتشاف بساطة وصدق المشاعر، بينما تجد من أبتلي ببساطة العيش أقرب للتمتع بالدفء والحنو؟
      لك أن تتخيل أنني حقا لا أستطيع نسيان وجه أصغر طفلة في تلك السيارة المتهالكة وهي تكاد تطير من شدة الفرح بقبلة إبيها وإبتسامه له..حتى لتشعر أنك في لحظات رحمة إلهية مغرقة وتستشعر إنشراحا عجيبا رغم أن كل ملمح فيهما يشي بالفقر؟!
      صحيح أن مجتمعنا أعرج، وأن لقمة الغني مغموسة بدم الفقير، وأن هناك لا يملّ من الكرع من كؤوس تلك الدماء رغم أن ظهره لا يستطيع رفع معدته من ثقل إمتلائها..لكن سبحان الله ما أشد رحمته إذ عوض عن هذه بتلك؟
      حقا يالسقم العيش إن تعرى من رداء الرضا والقناعة..
      ممتنة لإشارتكم العميقة : ( وقليل من عبادي الشكور)
      وممتنة لهذا المرور المثقل بدرره دائما..
      دعائكم

      حذف
  5. جمال ماسطرتي يعيق لساني عن التغبير وافتغر كثير لتعبير في كل الاحوال
    شكرا لك اسعدني اهدائك من اجمل ما جات لي من هدايه
    اختك ام مهدي

    ردحذف
    الردود
    1. أختي ام مهدي..
      ربما أنا سطرت كلام..
      لكنك سطرتِ مشاعرا لا أقوم بأقلها شكرا..
      مرورك هنا هو السعادة ذاتها يا أبنة الطيبين..
      شكرا من صميم القلب لهذا المرور الحبيب..
      دعائك

      حذف
  6. السلام عليكم
    شكرا لإهدائك الجميل .. تصويرك بليغ رفيع الإحساس وليس أجمل من كتابته إلا الروح التي استطاعت الغوص في معانيه وهذا ما يميز كتاباتك التي تنبض بالأصالة وتتسم بالعمق

    أخوك صادق العمران

    ردحذف
    الردود
    1. وعليكم السلام من المنان به..
      أي أُخيّ..
      أنه تراب أقدام الصادقين عندما مروا من هنا..
      وسام شرف نفيس ماقلدتنيه هنا يابن الكرام..
      والشكر عند أعتابكم عاجز..
      دعائك..والدعاء لك موصول

      حذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.